في تجربة نقد النقد
لقد طال نقاش واسع حول أهمية التقديم أو التصدير لجنس أدبي كيف ما كان نوعه،غير أن الدراسات النقدية الحديثة قد أولت أهمية قصوى لنصوص الموازية والتي من الممكن أن تكون مقدمة لعمل ما، أو خاتمة له، أو تعليقا وتعقيبا وصورا..
ويمكن أن نستثني من هذا الجدل، التجربة الزجلية، والتي لاتتمتع بمتابعات نقدية مواكبة، حيث يمكن للمقدمة أن تلعب دورا هاما في مقاربة النص الزجلي ومسائلته انطلاقا من تجربة صاحب الديوان، ولكن شريطة أن تتوفر في الناقد خصلة (النزاهة الإبداعية) حيث يبقى الهدف الأسمى هو تطوير مسار القصيدة الزجلية ببلادنا…
وهذا ما ينطبق على ما أنجزناه من نصّ موازي مقدماتي للعمل الإبداعي الرصين الذي أصدره الزجال حميد تهنية,حيث أن هذا العمل الذي انفتح على نصوص موازية غيرية استنتجنا بعد مقدمة الديوان بعض المعطيات، وكأننا دخلنا غمار ” نقد النقد”…ومما استنتجناه:
أن هذا العمل حقق مبدأ “متعة التكامل ” بدعوة النص المركزي لنصوص الموازية الغيرية حسب تعبير المفكر جيرار جانيت… (2) وأعني بها لوحة الغلاف ” الأيقونة” التصدير،والتقديم ، وسطور الغلاف الخلفي.
ثم أني قد استفدت من كتابة التقديم المضمّن بالديوان.. ومع ذلك طرحت السؤال؟
ماهو مبرر إقدامي على كتابة تقديم لهذا الدّيوان؟ الجواب بسيط جدّا:
هو إدراكي لعمق تجربته – وقناعتي النقدية بأن هذه التجربة ستتطور
نحو الأفضل، حيث يمتلك شروط هذا التطور، كما يمتلك الرغبة في تحقيق ذلك..
ومن مؤشرات نجاحه: امتلاكه لقدرة الإصغاء والتنفيذ..
وخلال هذا النص الموازي الغيري (الإضاءة)، لم أكتف بسبر أغوار هذه التجربة الزجلية، بل طرحت من خلاله ،العديد من القضايا التي أراها ملحة بالنسبه لهذا العمل ( حيث يصير الخطاب الموازي الغيري هنا –عمومي وخصوصي في نفس الآن.. (3) لأنه موجه للقارئ العادي، والقارئ الناقد.وهناك غائية مضمرة تفرضها ” بنية المكان الذي يتوزع إليها الخطاب المقدماتي،في علاقتها بالزمن الثقافي القادم” (4) لأنه من الممكن أن تتحول المقدمة (الذاتية الغيرية) إلى فصل في عمل نقدي، أو كتاب مستقلّ… (5)
كما يمكن لأيقونة الغلاف أن تتحوّل إلى لوحة للعرض، بدل الاكتفاء بتداولها كنص موازي لنص مركزي…
وما طرحته في مقدمة هذه الإضاءة من إشارات من الممكن أن نتوسع فيه بالدرس والتحليل في مشاريعنا النقدية المقبلة. وهي كما مايلي:
اتساع النظرة الشمولية لأنواع الزجل بالمغرب
التفكير في الأشواط الهامة التي قطعها النص الزجلي الحديث
تحديد المكاسب التي حققتها التجربة الزجلية ومنها مكسب ” البصمة ”
إشكالية الخوف على قصيدة الزجل من أزمة ” جدار اللغة”
وإشكالية عجز التجارب الصاعدة أو اللاحقة من تحقيق التطور المنشود، يفوق ما حققه الرواد المؤسسون….
أما الخطاب الموازي الغيري ،الموجه لصاحب العمل المركزي، فقد تناولت فيه بعض التيمات التي أرى في تحليلها ،استجلاء النثوءات المكونة لنص الزجلي عند الزجال حميد تهنية ومنها على الخصوص:
التضاد ،أو الطباق كمكون جمالي بنائي ( إضافة إلى اسثماره للجناس في أكثر من قصيدة – ياناسي مالي ماراسي –( قصيدة الشوافة ص32)
احتفاء خاص بالمكان (أقول الاحتفاء، لأن البعد الدّل والرمزي الذي أعطاه النقاد للمكان،يرقى بإبداع المبدع إلى السموّ والتعالي، ويكفي أن يقول المفكر والعالم الكبير غاستون باشلار في كتابه الشهير ( جمالية المكان) أن “اللغة هي بيت الشاعر” (6) كما يقول : ” كلمّا صغـّرت العالم بمهارة أكبر، امتلكته بشكل أكثر كفاءة..” (7) والقصائد التي احتفت بالمكان في ديوان “نوار الظلمة” هي:: دارنا البيضا، نسمة ، شعتالة،مجنون لمدينة ، فاس…..
الاحتفاء بدلالة الحرف ورمزيته، وهي ميزة يشترك فيها كل فرسان القصيدة الزجلية ببلادنا.. حيث يتم الاقتراب في العديد من الأعمال الإبداعية إلى مفهوم ” المرتجلة” التي وجدت مجالها داخل العمل المسرحي….حيث أن من مهام المرتجلة (تشريح دقيق لأزمة الممارسة المسرحية..) وهو يمكن إسقاطة على التجربة الزجلية….
النهج اللهجي أوخزانة القاموس الذي استثمره في إبداع نصوصه
الحضور الصوتي والإيقاعي عند الزجال ( الوعاء اللهجي متأثر بشعر الملحون،ويمكن الوصول إلى تأكيد ذلك من خلال تقديم شاهد واحد فقط استقيناه كنموذج من قصيدة “ضيف لقصيدة” ص21. حيث استعمل أسماء ومفردات معروفة الاستعمال على الخصوص عند شعراء الملحون، ومنها:
ضرغام: ويقال ضرغم : وهو الأسد لكن عند أهل الملحون يستعمل بالضبط كصفة لشجاع ، وفي المحلــّي في الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي هذا يقول عميد شعر الملحون الشيخ الجيلالي امتيرد في قصيدة الشمعة:
بلسانْ حالها قالتْ لي ياضرغام لفصاح.. (8)
سكَاد: سار في خط مستقيم قاصدا مكانا معلوما
رماكْها : أورموكْ ، العيون
اليعفور: غزل وهو ظبي بلون التراب
أما من ناحية الإيقاع، فالمتشبع بمسار النص الملحون، من اللازم أنه يؤمن بمقولتين عميقتين، الأولى للشيخ الجيلالي امتيرد حين قال: ” لميازن فالذات خلوق” والثانية :للشيخ والمنظر إسماعيل المراكشي حين قال لتلامذته ” إيلا كان الشعر اعسل، فالصوت شهدة ” (9) وقد تلخص هاتان المقولاتان فكرة البناء التأصيلي لمكونات أساسية مساهمة في بناء النص الشعري…… وفيما يتعلق بالمقولة الأولى، فقد دعمتها العديد من الدراسات النقدية نستقي منها المقولات التالية: (.. ليس الإيقاع بدعة أحدثها الموسيقيون، فكل شيئ من الطبييعة . أما الكائن الحيّ فكل شيء فيه يوقع، من تنفس وخفقان قلب ونبض عرق وحديث لسان…) (10)
كما أن الباحث في علم الموسيقى قد أجزم على أن الإيقاع كان أسبق عناصراللغة الموسيقية إلى الوجود..” (11)
سرّ اعتماده على الجمل الشعرية القصيرة(هناك استنتاج نقدي مفاده أن الاعتماد على الجمل القصيرة هي الأنسب إلى طبيعة الشعر وأكثر .موسيقا انسيابا، ويمكن أن نتحدث هنا على نوع من الشعر يطلقون عليه الشعر ” السلس” وقد جاء ذكره في ما تبقى من قصيدة تزخر ” بالنقد الصامت” للشيخ الزجال عبد الله بن حساين (12) حيث يقول:
نبدا باسم الله انظامي ياللي بغا لوزان
لوزان خير لي أنيا من قول كان حتى كان
ربي اللي الهمني نمدح جدّ لشراف يالخوانْ
بالشعر السليس الفايز هو يكون لي عــــوانْ
والشعر السلس كان معروفا لدى شعراء الجاهلية، وكان من بين رواده شاعر المعلقات امرئ القيس….(13)
لكن من الأفيد أن نركز على النص المركزي،ونسائله هل حقق نسبة للجانب الإشااري ؟(semiotic) أي إنتاج إشارات متواترة من المشيرات والمضامين.. “لأن النص بناء بلا إطار ولامركز ويتميز بالحركية والفاعلية المستمرة … ” (14) وهل تحققت للعمل القدرة على تحقيق تعددية المعنى ؟ .. وهل حدّد كينونته الإبداعية بخلق مجال التناص أي أن يكون قد تفاعل مع غيره من النصوص..؟ وبطبيعة الحال أن العمل الإبداعي الذي يفرز هذه الأسئلة ، هو النص القادر على تحرير العمل الأدبي من دائرة الاستهلاكية، ليرقى بها إلى مجال الرؤية الجمالية المبهورة بأريج المتعة ….(15) وأين تكمن ملامح التطورالمستقبلي لكتابة النصّ الزجلي عند حميد تهنية؟
لقد وضعت أصبعي على نص ” الشوافة”، حيث يتدفق بالصور المتواثرة، ويبتعد عن بدايات الخطاب المباشر، وتسمو تعابيره متحررة شيئا ما ” من الوعاء اللهجي المعتاد” بمعنى الانتقال باللغة إلى مستواها الثاني المفعم بالرمزية والدلالة والعمق في الطرح والتأويل..يقول نص الشوافة: (16)
القمرة هربات بها لفلوكة
وصارت الشوّافة تشوف الكف
ف:لمياه يحرق .. يشهق
وحلفتْ ما تحنّ عليه الشوفة
دلـّيتْ البيرْ فقاع لحبلْ
عسّى يانا نصيبْ ولفي
يرقص على نغام شجرة
يامس كانت لو رفيقة
تزمّمْ احلامو وريقة
ولا دارْ بدوايرْ الزّمان
يسبّقْ لعراسْ ف:مكانو
حامل عزو في خيالو
تقبّلْ فراحو احزان
روحو طيري ف: لفياقْ روحي
تسبّح تغوصْ في دخالي
تكمي فرحي على شفار
العيني تآمر تقول نوحي…. إلى أن يقولْ:
ليل الليل ما ارميناهْ
لفجر علاّ لهيهْ
مكواه ب نوارو يتيهْ
الدّنيا ماهي غير منداف
حاصلين فيها ثاني…
وفي الأخير يجب الاعتراف بأن الاشتغال على عمل مركزي وهو مسودّة، يختلف على الاشتغال عليه وهو جاهز بحلته الجديدة،لأن استثمار النصوص الموازية لاتحقق إلا بعد الإخراج النهائي للعمل، حيث نلمس بالنسبة لنص المركزي، تغيير قصائد بأخرى، وتغيير عنوانين بأخرى، وإضافة النص المتعالي لصورة الغلاف ” الأيقونة”
وحضور تصدير، وإهداء ، وهوامش،وحضورها في النقد الحديث مهم جدّا، لأنها تخلق خط تماس إيجابي بين النص المركزي، والنصوص الموازية الذاتية أو الغيرية….
آملا أن لزجال حميد تهنية مسار زجلي إبداعي يثير الاهتمام والتألق،وبمعيته نفرح بتجارب لاحقة موفقة إنشاء الله….
كتبت إضاءة تمهيدية حول تجربة الزجال حميد تهنية بديوان ” نوار الظلمة ، مطبعة أنفو فاس 2009 ، ويوم 30 يونيو 2009 شاركت بدار الثقافة بفاس بهذه المداخلة في حفل توقيع الديوان…
منصر نبيل،الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال للنشر،البيضاء ص64
المرجع نفسه، ص، 29
المرجع نفسه، ص: 30
المرجع نفسه، ص: 33
باشلار غاستون ، جمالية المكان ، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، ص: 223
المرجع نفسه، ص: 224
الفاسي محمد، معلمة الملحون، ج2 – ق 1 ” معجم لغة الملحون ” منشورات أكاديمية المملكة 1991 الرباط ، ص: 129 – 139 – 196
الراشق محمد، أنواع الزجل بالمغرب من الغنائية إلى التفاعلية دراسة ونصوص
دار أبي رقراق للنشر الرباط ، ص: 20
عبد الجليل بن عبد العزيز، الموسيقا الأندلسية المغربية، كتاب عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت ، عدد : 129 ص: 193
المرجع نفسه ، 194
أنواع الزجل بالمغرب، مرجع سابق ، ص: 91
المرجع نفسه، ص: 93
حافظ صبري ، التناص وإشاريات العمل الأدبي ، مجلة المقولات 1986 بارت ومفهوم التناص ،ص: 83
المرجع نفسه، ص: 84
ديوان نوار الظلمة لزجال حميد تهنية، ص: 31
مقالات جديدة