قراءة للشاعر السوري شاهر الخضرة في تجربة الزجال إدريس أمغار مسناوي
الرابط /
http://www.doroob.com/archives/?p=42372طير القراءة
(ما جمّع الشامي على المغربي)
دمشق
شاهر الخضرة
26-9-2009
-1-
في البداية أود توضيح أمر هام أنني وأنا الشاعر المشرقي المولد ( من سوريا ) لا يمكن لي أن أزاود على أبناء المغرب ولا على مثقفيه ولا على أهل الفن من شعراء وباحثين لهم اليد الطولى في مسألة شعر يخص ( بلهجته ) بلدهم وتراثهم عموما ، ولا أستطيع مهما حاولت بجهد مكتسب ثقافي شخصي أن ألم بكنه اللغة الدارجة المغربية وأسرارها وطاقاتها الشعرية وخاصة أنها المخزون النفسي والثقافي للبيئة المغربية بأمثالها وحكمها وموروثاتها التي قد تغيب عنّي كقارئ شامي بعيد جغرافيا عن البيئة المغربية وإن كنا نشترك بموروثات عامة ثقافية وتاريخية ، فبرأيي أن الشعر باللغات الدارجة ما يسمى منه الملحون أو الزجل أو الشعر الشعبي عموما هو شعر له ميزة الالتصاق بالمحلية والمحيط الحيوي الطبيعي لدورة المجتمع التفاعلية من حيث المركزية المغناطيسية للمجتمع في الكيان الحديث أو الكيانات التي تشكل وحدة طبيعية بيئية بقدر ما تتفرد عن البيئات الأخرى بقدر ما تنفي عنها الحتمية المادية التاريخية بفاعلية إنسانها إن مثاقفة مع البيئات الأخرى وإن اجتياحا للحدود الطبيعية لتلك البيئات فينتج من هذا أن الإنسان هو الأساس ، الحياة ، وهو من يقرر مصير البيئة لا العكس ، منتهزا كل الظروف لتحقيق إنسانيته الأشمل ، متأصلا في تربته ووطنه وكيانه الأصل التي هي بدورها كالجذر في التربة تسمق الشجر وتطاول عنان السماء معتمدة على الأساس سواء كان خفيا أو مكشوفا ، وهذه التقدمة لا تعني مجتمعا بعينه بالنسبة لي ، بل هي توطئة لعذر أتقدم به بين يدي القارئ الذي قد يقول ( شو جمّع الشامي على المغربي ) وخاصة أن الشامي لا يكتب عن مجموعة شعرية لمغربي باللغة العربية الفصحى التي نشترك فيها معا في كل الأقطار العربية بل يكتب عن مجموعة شعرية باللغة الدارجة المغربية وقد تكون صعبة المنال على أهل الدارجة من العامة في بيئتها فما بالك على قارئ من أقصى المشرق وهذا لعمري قابل للتهمة بالمزاودة أو بالمحاباة والنفاق ، ولكني أتريّث القارئ قليلا بالقول إنني لظروف شخصية أتيح لي من فهم اللغة الدارجة في المغرب فهما كافيا لي لقراءة الشعر بالدارجة ، قراءته كشعر ، فحسب ، منقبا في خصوصيات اللغة الدارجة والنصوص الغائبة في ثناياها سواء كانت من الفصحى أو من الزجل ذي التاريخ العريق الذي كتب عنه في الأندلس وفي بلاد المغرب فهذا من هوايتي كشاعر ، مع إقراري بالفضل لكثير من الكتب التي كتبها متخصصون في هذا الجانب وما وصلت إليها ، وكان الفضل الأول للأصدقاء من الباحثين والشعراء من المغرب كالشاعرة نهاد بنعكيدا التي أهدتني عددا من مجموعات شعرية فضلا عن الأنطولوجيا التي نشرتها ودراسات عن الشعر الزجلي المغربي ( الملحون ) واستفدت كثيرا منها بفهم كثير من الكلمات التي استغلقت علي بسبب طريقة الكتابة التي تحاكي النطق كما هو في الدارجة ، وأيضا أقر بالفضل الكبير للشاعر والباحث الأستاذ محمد الراشق الذي قرأت بعض دراساته ومحاضراته في هذا الموضوع ومن خلاله تابعت الحصول فيما بعد على ما كتب من كتب تيسر لي منها القليل ولكنها لم تتركني أخبط خبط عشواء في الشعر الملحون المغربي بل أفادتني قدر ما استطعت ، ـ ودافعي إلى كل ذلك لم يكن مسابقة من هم أهم مني في الكتابة عن بعض المجموعات الشعرية التي وصلتني من الشعر المغربي المكتوب باللغة الدارجة المغربية . معاذ الله ـ بل بدافع الحب الذي يملأ قلبي شغفا بالمغرب شعبا وتاريخا وأصالة وثقافة وإبداعا ـ وأيضا ولا أكشف سرّا لعودة أسرتي قبل قرنين ونصف من الزمن إلى أصول مغاربية وما زلنا نحمل عروقا مغاربية في أعماقنا وفي بعض أطباعنا ـ
*********
في عام 2006 تسنّى لي الاطلاع على بعض المجموعات الشعرية لشعراء ما يسمى بالزجل المغربي ومن تلك الدواوين توصلت إلى أنه هنالك حركة حداثية شعرية مغربية اتخذت اللغة الدارجة لغة تكتب فيها الشعر بكل معانيه الحداثية وهي شقيقة لما يكتب بالفصحى من شعر عظيم في المغرب الأقصى الذي كنت على اطلاع لا بأس به مما نشر ، ولكن اهتمامي في الشعر الفصيح ربما قد لا يضيف شيئا لما كتب عنه فأبقيت الأمر على أن أغذّي نفسي بما يخفى عليّ ما لبث منه في أعماقي وما طرحتْه في ذاكرة النسيان ذائقتي الشعرية ، ولكوني أحمل همّ الشعر في لغتي الدارجة وأطالب دائما بالاعتراف به كشعر حديث حقيقي شقيق للشعر الفصيح وليس بديلا له ولا لاغيا أحدهما للآخر بل على طريقة ” لكل منكم وجهة هو مولّيها ” أجد نفسي دائما سالكا المسلك الوعر في معاكسة تيار الطوفان الرسمي العربي الذي يضع ما يكتب بالفصحى على سلّم الأولويات وإهمال الإبداع الشعري الذي يكتب باللغات الدارجة بألف حجة وحجج كثير منها تحمل الحق من وجهة نظر قومية ولكنها تحمل أيضا في دواخلها نفسية طاغوتية تهيمن على حقوق مهما كانت أقلية في المد الكلي إلا أنها حقوق يجب أن تصان ، وما بالك إذا كانت هذه الحقوق لغة يتحدثها الشعب وهي خزانته النفسية وليست الفصحى سوى مادة طيعة تضيف إليها ولكن لا تطغى عليها إلا عند من يهوس هوسا فوقيا متعاليا على حقيقة لا تحتاج إلى براهين .
*********
أجل إنني سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت ، ومع الأغصان اليابسة حتى تزهر كما يقول الشاعر المرحوم محمد الماغوط هذا إذا كانت تلك الأغصان يابسة ، أما والأغصان مخضلة من ريّ نسوغها وخصبة حد التفتق فبالحريّ أن أستظل ظل هذه الأغصان ، وأن أرطّب قلبي وذوقي بنتحها وجناها ، مقسما وإنه لقسم شعريّ لو تدرون عظيم ، أن تسمياتنا تدل على تخلفنا حين نسمي هذا شعرا بالفصحى وهذا شعرا بالعامّيّة تفضيلا طبقيا للست البرجوازية على الجارية وفي هذا منتهى الإساءة إلى أنفسنا أولا ومن ثم إلى الشعر الذي إما أن يكون شعرا وإما لا فقط .
وأتنبأ بأن المستقبل وبعدما يترجم الشعر الحقيقي باللغات العربية الدارجة إلى لغات عالمية ويأتينا عائدا مشفوعا برأي الغربيين ، حينها ستدرك الأمة كم غمطت من شاعر حقيقي من أبنائها وكم أضاعت .
*********
لا يحق لي أن أقيم مقارنة بين شاعر مغربي باللغة الدارجة وشاعر آخر مغربي بنفس اللغة ، فهذه قد تجلب لي المسبات وتحقن النفوس بالضغائن عليّ وأنا لا أراني قادرا على حمل مثل هذه التبعية ، ولهذا سأجعل بيني وبين القارئ دريئة أحمي نفسي بها ، متمثلا ما قاله العرب القدماء (( الشعر من أنت في شعره )) وعلى هذه المقولة العادلة سأبني سفينتي للإبحار في إحدى مجموعات شاعر وأتخذ من قراءتي كشاعر ، لا كناقد ، رواقا لا كرواق فلسفة زينون بل رواقا لمنفيٍّ من مجتمعه شعريا ، يقرأ فيُعجَب بما قرأ فيحكي شفاهيا بالقلم على أوراقه بما أعجب به مؤمنا بأن اللغة الدارجة لم تعد لغة شفاهية فحسب بل لغة الكتابة والقراءة أيضا حالها كحال المُعربة في ماضيها .
*********
قبل الدخول في ديوان الشاعر المغربي إدريس مسناوي سأحكي لكم طرفة حصلت قبل يومين : ذهبت أحمل ديوانا للشاعر إدريس مسناوي مجلّدا بورقة جريدة إلى مجمع أهلي للشعراء في دمشق وهناك استأذنت من يجالسني على طاولتي أن أقرأ لهم قصيدة من الديوان دون أن أسمّي صاحب الديوان وبعد أن فرغت من القراءة التي خنت فيها اللهجة المغربية نصف خيانة وقرأت قراءة تتراوح بين العامية السورية والعامية المغربية نلت بها إعجاب الشعراء المستمعين إلا أن أحدهم قال لي ما دمت شاعرا سوريا لماذا تكتب باللهجة المغربية وأنت لا تجيد نطقها فأعجبتني تلك الملاحظة وكوني شرّيرا قلت سأذهب بالمقلب إلى آخره ، فأجبته قبل أن تنتقدني على الشكل أحب أن أسمع منك ومن الأخوة وكلهم شعراء ما رأيكم فيما وصل إليكم من قصيدتي كشعر فأجمعوا كلهم على أنني عجنت الشعر وخبزته ناضجا برؤى شعرية حديثة ولكن مع الأسف باللغة العامية ، فسألتهم وما مشكلتكم مع العامية ، فقالوا لم نعتد أن نسمع أو نقرأ شعرا له هذه الرؤى الحداثية إلا بالفصحى ، قلت هل ستظلون أسيري العادة أم أنكم ستكسرون يوما هذه النمطية السكونية وكلكم يدّعي أنه شاعر رافضيّ إلا إذا تجاوز الشعر نفسه من لغة تقدسونها إلى لغة لا ترون لها مكانة إذا ما تعلّق الأمر بالإبداع ، ودارت نقاشات شعرت بالتزمّت وانقلبوا بالأكثرية ضدّي دفاعا عن الفصحى ، وقبل أن أودعهم قلت لهم يا أصدقائي سأقرأ لكم القصيدة بالفصحى على طريقة قصيدة النثر وفتحت الكتاب وقرأت القصيدة ذاتها ، فقالوا رغم محافظتك على معانيها وعلى مستواها إلا أنك حين قرأتها باللغة المغربية الدارجة كانت القصيدة أكثر حرارة وأقوى شعرية وأنفذ إحساسا ، فقلت لهم إذن هذا رأيكم وأنتم لم تسمعوها من صاحبها أي الشاعر الذي كتبها بل مني أنا الممثّل عليكم فهذه القصيدة للشاعر المغربي إدريس مسناوي ! ! فسألوني بصوت واحد ومن هو الشاعر إدريس مسناوي ؟ أجبتهم والله لا أعرف من هو ولا متى ولد ولا حالته المدنية متزوج أم أعزب موظف أم يعمل عملا حرا ، كل ما أعرفه هو ثلاثة دواوين شعرية له وصلتني من شعره جدير كل واحد من هذه الدواوين أن يسمّي صاحبه شاعرا ، فقالوا نحن سمّيناه شاعرا من قصيدة واحدة رغم أسلوبك الشرّير ، ثم سألوني هل كتبت عن شعره ؟ قلت لهم يا أصدقائي إليكم إذن خواطري في ديوانه :
” مقام الطير ” …………….
*********
-2-كتب لي الشاعر إدريس مسناوي في الإهداء :
((أنا كتبت من راس طيري / وأنت اقراني من طير راسي ))
قرأت الإهداء ونزل على قلبي ما يشبه الحمل الثقيل وسألت نفسي هل باستطاعتي أن أقرأ كما يطلب مني الشاعر من طير رأسه ، إنه قصد أم لم يقصد فقد وضعني أمام تحدٍّ بأن أقرأ شعره كما يتمنى كل شاعر حقيقي كبير ، ثم سألت نفسي : طيّب . . لو استطعت أن أقرأ كما يتمنى عليّ الشاعر فهل تسعفني قراءتي أن أكتب عنه كما وصلني شعره في القراءة . . ودائما أجد لنفسي عذرا بأنه ما عليّ لو لم أصل بكتابتي مستوى النقد أو مستوى الشعر ذاته طالما أنني لا أتقدم لامتحان ولا لأنال جائزة على ما أكتب ، وما هي مني سوى محاولة لإمتاع نفسي أولا ومن ثم التأكيد على ما رسخ في ذائقتي لتعميقه في الأعماق التي أملأ خوابيها وخلاياها من كل ما أقرأ محاولا مشاركة القارئ ذوقي في قراءتي .
كتب الشاعر ديوانه ” مقام الطير ” تحت أربعة عناوين
1- طير النور
2- طير لمداد
3- رماد العنقا
4- الطير السمي
فالكتاب يحتوي على حالة شعرية شاغلة واحدة هي في الجوهر طريق سفر واحدة ذات أربع محطات كل محطة منها استراح الشاعر من تعب السفر بقصيدة توحي برحلة سندبادية ولكنها رحلة الأعماق والفكر ( طير الراس ) أكثر منها رحلة في الجسد ، واستحضرتْ ذاكرتي ” منطق الطير ” لفريد الدين العطار تلك الرحلة بمراحلها السبع التي ترحل فيها الطيور بأعدادها الهائلة قاطعة من واد إلى واد فتهلك جميعها إلا ثلاثون طيرا ، تنجو وتصل إلى مبتغاها إلى الطير
( الإله ) طائر ( السي مورغ ) (الطائر الأسطوري في الأساطير الفارسية )
فلا تجد إلا مرآة يرى كل طير نفسه فيها . .
فلقد خالف الشاعر مسناوي أسطورة سحر الرقم سبعة إن في عدد رحلات السندباد السبع ، وإن في رحلات ” منطق الطير ” السبع بأن اختصر مقامات الطير _ طيره _ إلى أربع مقامات ، فطير النور حيث بالنور تبتدئ الحياة ، وطير المداد حيث بالكتابة بدأت حضارة الإنسان الذي وعى ذاته ، وطير أو رماد العنقاء حيث الموت والبعث ديدن الحياة وأن من الرماد النار الخامدة في الظاهر ينتفض روح الطائر من رماده وينبعث ريش الحياة متجددا ، كما يقول الشاعر في القصيدة : ( “اخرج آدريس من موتك // ادخل جمره حمرا فِ صوتك )
وأخيرا وهو الطير الرابع حيث يسمي الشاعر عنوان قصيدته بـ الطير السمي ، وسميّ الآخر هو الذي يحمل اسمه ولكن الشاعر لم يذهب إلى سميّ بهذا المعنى فحسب بل كما قلت فهو ينهي رحلاته الطيرية الأربع بطير السمي كما أنهاها فريد الدين العطار في كتابه بأن أوصل الطير إلى أنه تجشم كل عناء السفر ليرى صورته في المرآة وكأنها تصل به إلى ” إعرف نفسك ” أو أنت من ترحل إليه ، أو أنت من تطلبه ومن تبحث عنه ، وبالتالي فالشاعر إدريس مسناوي يريد أن يقول بعنوان قصيدته الأخيرة في الديوان <> أي أنت سمي نفسك ولذلك جعل الشاعر للقصيدة مفتاحا الآية القرآنية
” وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ”
وبرغم ما حمّل القصيدة من سرد حكائي حيث يشير الشاعر في الهامش بأنها حكاية مغربية منقحة إلا أنها حملت شعريتها إلى المعنى بجمالية ودقة الوصف والصور الفنية من مثل ( يفاجي عليها ضباب الضيم )
أو مثل ( حين تا ترجع الموجه منين جات حانيه الظهر ، تا توقف الصخره مثل شي امبراطور منتصر ، راكعين له لمواج ، تقول صفوف م العسكر ، تا تمد الصخره للطير كفها جنّه ، كأنّه قطعه من قلبها ) وهي حكاية باختصار
صياد رأى طيرا جميلا يصدح على صخرة عند شاطئ البحر فقال سأنصب له فخّا وأحمله إلى زوجتي في قفص لتتسلّى به ويبعد عنها هموم الحياة اليومية بأغاريده ولكن الطير بعد أن حمل في القفص إلى بيت الصياد توقف عن التغريد وصمت حزينا ، لأيام فما كان من الزوجة إلا أن فتحت باب القفص وأطلقته فطار الطائر وعاد إلى حيث عشه على تلك الصخرة ناشرا أجنحته يطير ويحط وهو يردد صداحا أجمل من ذي قبل إذ عرف الحرية وعاد إلى عشّه بعد أن ذاق مرارة الأسر .
وللحقيقة ليست هذه القصيدة هي سوى الكلمة الختام للديوان ولكنها ليست الأجمل والأعمق فالشاعر ذو نفس ملحمي طويل في القصائد ولا يكتب ببساطة كما قد يخيل للقارئ من قصيدته ( الطير السي ) خاتمة الديوان فعلى القارئ أن يكون متقلّدا أسلحة كثيرة حين يشرع في القراءة من سعة المعرفة والاطّلاع اللذين يتحلّى بهما الشاعر وهو قد ضمّن صراحة أساطير وأسماء ورموزا منها صوفية ومنها رموز كونية وأدبية شعريا وفكريا ناهيك عن النصوص المتوارية وراء النص ، والتي ربما تحتاج كل جملة من النص إلى حاشية تشرح ما رمى إليه الشاعر وقد أومأ الشاعر إلى مقولة صوفية أو إلى فكرة لمفكر أو إلى حديث قدسي أو إلى بيت شعري لشاعر عربي أو غربي ، أو إلى ما تزخر به الذاكرة الشعبية من أمثال وحكم وغيرها ، وقبل هذا كانت القصيدة وكان الشعر فيها محلّقا كالطير فهو في قصيدته رماد العنقاء يبتدئ :
( كنت واحد من الطيور
المسكونين بنور السفر
سريت في سِرِّي جهر .
تمعدن طيني والمعنى فِ دْماغي ختَرْ ” أي تخثّر ”
فاضت خميرة الروح على لوح العمر كنت خبزة
عجنوها يدين الصبر
شافوها عينين الوتر .
طلعت من جهري سر
حكني الزمان بلغاه
بيّضني السعد برضاه
حمّرني لمداد بحياه
جوهرني السفر .
لقيت حلمي ما غمّضش الشفر
رجمت شيطان النفس
للراحه معنى أخرى
فِ قاموس الشعر والنثر .
وهكذا فالقصيدة لا بد لقارئها من ذخيرة كما أسلفت ليلم بمراميها فالسفر أو الطيران ليس طيرانا خارج الحياة ولا هروبا منها إنه طيران الذات أو كما قلت رحلة الأعماق على جناح الحلم الذي يستنبت الشاعر ريشه من الشعر وأيّ شعر.
( أشعل الفجر جوج خيوط ذا لشجر قدّامي <>
ضحكت الطريق ضحكه ذهبيّه .
الريح تا يقرا ريوس الشجر بصوت حنين على إيقاع أقدامي
الخطوه ميزان والسفر عين أحلامي )
ويتابع الشاعر غناءه الوجودي بشعر كونيّ
( السفر يا ميزان عيني
السفر يا عين ميزاني
خذني خذني لأبعد شط فِ حلمي
لأقرب نقطه فِ كياني )
ويلتقط الشاعر نفسه بوضع مقاطع من الفكر الصوفي بالفصحى
{ إذا لم تكن قد نقلت الخطوة في طريق العشق فاذهب
وأحب ثم عد إلينا ، إذ بدون كأس خمرة الصورة
لن يستطيع امرؤ تذوّق جرع المعنى }
دالاًّ أن الشعر باللغة الدارجة قادر وبسهولة حمل الفلسفة والفكر والصوفية وباستطاعته حمل أسئلة الحياة الكبرى ولكن ضمن حيّز كلام المشاعر لا كلام الذهن المجرّد وبهذا ارتقاء باللغة الدارجة من السطحية التي ترمى به إلى مصاف لغة الشعر ، وإن من يأخذ اللغة الدارجة إلى هذا السبيل فلا يأخذها عبثا ولا لعبا ، إنه يأخذها أخذ شاعر يعرف ما يريد ، وكأنه يقول بهذه اللغة البسيطة التي فرّت من تعقيد الشكل والنحو سأفجّر طاقة الشعر الذي لا يُدرك .
[[ وأراني مستطردا حين أتحدّث عن شعر إدريس مسناوي كأنما أقصد شعري وشعرا لآخرين ( قلّة ) كتبوا باللغة العاميّة لا بمفهوم أولي التعمية أن هذا الشعر شعر شعبي مع كل احترامي للكلمة وللشعر الشعبي . . فأنا دأبت على القول والتكرار إن هذا الشعر ليس شعرا شعبيّا ولا يمكن أن يكون بينه وبين العامّة إلا حلقة واحدة هو أنه كتب بلغة العامّة ، إنما وبكل تأكيد وثقة أقول ضاربا قولي في وجه السطحيين من الذين يقللون من شـأن هذا الشعر . . أقول:
( هذا شعر عظيم كتب بهذه اللغة الدارجة وإعجازه في جوهره الشعري العظيم ) فاللغة لا تمنح شرف الشعر مهما كانت سليمة الإعراب ]]
وكي لا أثقل على القارئ وأصيبه بالملل أدعوه لقراءة هذا الديوان أو هذا الشعر الحديث إن باللغة الدارجة لشعراء المغرب أو بلغة شعراء مبدعين آخرين ( قلّة كما أسلفت ) وكوني بين يدي قصيدة من قصائد ديوان الشاعر إدريس مسناوي الذي لم يرهقني كونه ليس مغرقا في الكلمات المحلّية وأقرب إلى اللغة الفصيحة والثقافة العالية ، ولكن ديوان ” مقام الطير ” لم يكتب بالبساطة ، فهو كتب بلغة الشعر العالية أولا ومن ثم حفر لشعريته مجرى كنهر واستطاع الشاعر بالقصيدة الطويلة أن يحافظ على الجريان بين ضفتي القصيدة وهذا لا يستطيعه سوى شاعر فذّ يعي كيف يحافظ على وحدة القصيدة كما لو أنه من شعراء الملاحم الغربيين مسقطا أو مكذّبا قول أحد النقاد العرب من أن القصيدة العربية الحديثة الطويلة ماهي إلا شذرات قصيرة ربطت إلى بعضها أو نصوص مجموعة تحت عنوان واحد ولكنها قصائد عدّة وليست قصيدة واحدة ، وليس بوسعي هنا أن أضع القصيدة كلها لأبرهن على ما أقوله ولكنني قرأت الديوان مرّة بمتعة التذوّق ومرة محاولة لتحرّي النصوص المنطوية عليها القصائد وما أغناها وما أكثرها
ومرّة لأكتب هذه القراءة التي مهما حاولت فلن أستطيع مجاراة الشعر بالكتابة عنه .
ولعل خير ما أختم به لا ما ذهبت إليه قصيدة رماد العنقا التي اشتغلت بالموت كثيرا بل بجمل تحفل بالحياة عند الشاعر :
( ضحكت السما فِ السما
ضحك قبر الحياة للحياة
تكلَّم ضيفُه
التعاويده تدفقتْ مداد
على كفوف النهار وشْمتْ طيفُه
والطير مسحور
ساحراه غيمه هارب بها الريح
ريح . . هازّ عليها وعليه سيفُه . )
**************