الانغلاق على الذات والسطحية في القصيدة الزجلية
إذا كان الزجل قد بدأ يفرض نفسه كجنس أدبي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ في الساحة الثقافية المغربية، وذلك من خلال المنابر الإعلامية المكتوبة والمسموعة والاصدرات الزجلية من مختلف المناطق المغربية بما فيها الورقية والمسموعة، والتي تبرز لنا مدى ثراء القاموس الشعبي المغربي، وكذلك الثورات الإبداعية التي عرفتها القصيدة الزجلية على مستوى الشكل والمضمون بقيادة شباب استفادوا وأفادوا، هذا بالإضافة إلى المهرجانات الخاصة وحفلات التكريم التي يحظى بها إخواننا الزجالين المرموقين، فإن ثمة تحديات تفرض نفسها هي الأخرى وتنتظر تدخل المعنيين والفاعلين الثقافيين والمهتمين للحفاظ على هذا اللون الشعري الذي ينهل من رحم الثقافة الشعبية المغربية الأصيلة والرقي بالقصيدة وهي تحديات في نظرنا ناتجة عن انطباعات شخصية ولا تتوخى الأستاذية كما يقول من سبقونا لمثل هذه المواضيع.
الإغراق في الذات:
يعتبر الشاعر الزجال كلماته مرآة تعكس مشاعره الخاصة وعواطفه الدفينة التي يجاهد ويكابد في سبيل إخفائها على عامة الناس بما فيهم الوشاة والفضوليون، والاحتفاظ بها لنفسه وربما لأعز أصدقائه وأقرب أقربائه...لهذا فإن الشاعر الزجال على الرغم من الوعود والمواثيق الغليظة التي يأخذها على نفسه، والمحاولات التي يبذلها للتستر وعدم البوح فإن شيطان الشعر كما يقول سعد العبد الله الصويان يغلبه على أمره فينقاد له ويستجيب لداعي الشعر، لتنفجر طاقات الإبداع الكامنة لديه. فهو بذلك يشخص مرضه ويشهد القارئ على معاناته وأعني هنا القارئ المجتهد الذي يصدق فيه قول المثل الشعبي "أنت بركم وأنا نفهم". ولكن الإغراق في نشر وعرض المعاناة في سوق القارئ قد تفسد لذة الشراء أو التمتع بالقصيدة، فأقل ما يمكن أن يقوله هذا القارئ عندما يصادف قصيدة أو ديوانا يتطرق فيه الزجال لمعاناته النفسية من ألفه إلى يائه هو: وما دوري أنا؟ واش "شغلي أنا كولها يعوم بحرو" ليعيد الديون إلى مكانه أو يضغط على "رجوع إلى الخلف|" إذا كان متصفحا لموقع إليكتروني. وبهذا السلوك نستنتج أن الزجال لم يشبع رغبة القارئ الذي تطارده المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...من هنا وهناك. وللإشارة فإن هذا الأمر لا ينطبق على الزجل فحسب بل على جميع مجالات الإبداع المكتوبة والمرئية فهي كلما كانت أكثر انغلاقا على الذات كانت أكثر بعدا على المتلقي الذي يطمح إلى إبداعات تذوب في واقعه.
ولنا في رباعيات سيدي عبد الرحمان المجدوب وسيدي امحمد البهلول وغيرهم من المجاذيب وصناع الحكمة مثل بليغ فلو أن كلماتهم لم تكن من رحم الشعب وإلى الشعب لما عرفت تداولا على أبعد نطاق إلى يومنا هذا.
وبالتالي فإن مهمة الزجال بصفته شاعرا رقيق المشاعر مرهف الإحساس هي أن يكون سريع التأثر بما حوله ودائم التفكير بأحوال الناس وتقلبات الزمان، يتفاعل مع أحداث المجتمع ويشارك الناس همومهم ومشاعرهم، لا أن يذوب في ذاته فقط لأنه ملك للمجتمع وناطق باسمه من موقعه الخاص كزجال.
إثارتنا لهذه النقطة لا تعني أننا نتعارض مع الزجل كمتنفس عاطفي يستغله الزجال للتعبير عن مشاعره ومعاناته النفسية والعاطفية كأيها الناس، وكذلك معاناته في النظم والإبداع ومغامراته مع القصيدة كشاعر، وإنما لكي نلفت انتباه إخواننا الزجالين والمهتمين بأن مسألة الإغراق في الذات والتفلسف في الوجود وغض الطرف عن الأخر وهو ذاك القارئ الذي ينتظر أن يشاركه الزجال آلامه وآماله، من أبرز المشاكل التي تواجه القصيدة وتجعلها حبيسة فئة معينة فقط، خاصة في زمن العزوف عن القراءة.
السطحية:
لعل المتتبع لما ينشر على صفحات المواقع والمنتديات الزجلية الخاصة يقف على مجموعة من الكتابة الزجلية التي لا تتعدى السطحية كما قال الزجال احميدة بلبالي والتي تستهين بالقارئ عبر المعنى الجاهز الذي تقدمه والصورة المستهلكة التي لا ترقى حتى إلى تعابير التواصل اليومي والعفوي على حد قوله. وهذا أمر متفق عليه عند أهل الزجل والعارفين به، لأن مهمة الزجال كما يقول الزجال والناقد علي مفتاح هي الانتقال بالقارئ/ المستمع من الذوقية العامية إلى الذوقية الشعرية.
ولكن وعلى ما يبدو لي إذا كانت السطحية من عيوب الزجل فإن الغموض من عيوبه كذلك، ليكون الحل في الوسطية أي أن يغرق الزجال في الغموض وأن يجتهد القارئ قدر الإمكان - وبإذن الله سيقضي كل منهما غرضه-
ولعل طغيان السطحية على حساب الكتابات الزجلية التي ترقى إلى ما يتطلع إليه العارفون بخبايا القصيدة والنقاد والمتتبعون يعود مرده في نظري إلى أسباب شتى وعلى رأسها عدم الإلمام بالتراث الشعبي عامة وخاصة الأدب الشعبي الذي يعتبره الدارسون أهم حلقة من حلقات التراث الشعبي، لكونه يزخر بأنواع أدبية متعددة كالأمثال والألغاز والأشعار والقصص (حكايات، خرافات، أساطير...) والتي يمكن اعتبارها مصدرا لا غنى للزجال عنها من أجل بناء قصيدة تجمع بين المعنى والذوق هذا من جهة، ومن جهة ثانية نجد أن استلهام الزجال لأنواع الأدب الشعبي في بناء القصيدة يعتبر في حد ذذاته وسيلة من وسائل الحفاظ على تراثنا الذي يعج بكلمات وعبارات وأمثال بليغة بدأت تتلاشى بفعل مجموعة من العوامل التي لا تخفى على أحد منا، مما فتح الطريق لتسلل كلمات -غربية وسوقية- دخيلة على مجتمعنا.
بالإضافة إلى عدم الإلمام بالأدب الشعبي بمختلف أنواعه نجد غياب الاطلاع على التجارب المحترمة في مجال القصيدة الزجلية كما يقول علي مفتاح، علما أن أي مجال كما كان نوعه يريد الإنسان اقتحامه، إلا وكان الاطلاع على تجارب الرواد فرض عين إذا صح التعبير باعتبارها "ساسا" يساعد على بناء متين.
وأود أن أشير في هذه النقطة أن صعوبة النشر التي تواجه الكتاب والكتاب الزجلي ساهمت في تكريس معضلة عدم الاطلاع على تجارب زجلية متعددة، وإن كان الرواد يكتبون ويشاركون في المنتديات فإن هذا غير كاف.
وحتى لا تتمادى النماذج الهزيلة من القصائد التي ينأى عن أصحابها الإحساس بصدق الكلمة كما تغيب فيها الصياغة الجيدة والتعبير الفني الناضج، فإن الأمر يقتضي من أهل الحرفة والنقاد والمهتمين التدخل العاجل للوقوف أمام هذه النماذج وتوجيه أصحابها بكل جرأة أبى من أبى وشاء من شاء لأن اثنان لا يتعلمان المستحيي والمتكبر. فما أجمل التشجيع ولكن التوجيه أجمل منه، وإذا التقى الاثنان فإن الأمر سيكون أجمل بكثير.
موضوع الانغلاق على الذات والسطحية نقطة من بحر التحديات التي تواجه القصيدة الزجلية وفي انتظار تفاعل الزجالين وأهل الاختصاص دامت لكم المسرات والأفراح.