شاعرية الماء
في قصيدة « لكلام اللي تايشبه وجه الما »
للزجال والباحث محمد الراشق
يأتينا هذا المتن الزجلي باذخا في بناءه وفي صوره وفي معجمه. بحيث يقدم لنا صبوة إبداعية لا يمكن إلا أن نسجل بنوع من الارتياح أن الزجل المغربي يعرف تألقا لا يمكن إغفاله. قصيدة «لكلام اللي تايشبه وجه الما » ما هي إلا إحدى الروائع التي نصادفها من حين لآخر هنا وهناك عبر ما ينشر في بعض المنابر أو الدواوين التي أصبحت تزخر بها خزانتنا الوطنية.
شخصيا لا يمكن لي أن أمر دون أن أثمن هذا النص الذي يستجيب لخاصيته الجمالية شكلا ومضمونا، أي صورا وإيقاعا.
الماء في رمزه للخصوبة أخصبَ هذا المتن الزجلي بثمة رئيسية هي الماء، حيث يستحضره الزجال 24 مرة، إذا أضفنا إليه الموج ، الضباب ، الغمام ، الواد ، الحليب ، المداد وغيرهم من الكلمات أو الأفعال التي تحيل على الماء ....
لماذا الماء ؟
الماء هو أول عنصر مكون للطبيعة حسب ما ذهبت إليه الأساطير وما جاءتنا به الكتب السماوية بدءا من كتاب التوراة.
هناك نصوص قديمة كشفت عنها الحفريات يعود بعضها إلى قرون قبل الميلاد، مثال ذلك :
_ نص بودي قديم يقول بأن كل شيء كان ماء.
_ نص طاوي قديم يقول هو الأخر بأن الماء لم يكن له حد، أي لم تكن له ضفاف ولا شطآن.
_ ملحمة كلكاميش التي تعود للعهدين، السوميري والأشوري، تتكلم عن الماء والطوفان.
رموز الماء
هي عديدة ، بحيث تختلف من حضارة إلى أخرى ومن قارة إلى أخرى ومن ديانة إلى أخرى.
عند العبريين والمسيحيين الماء يرمز لأصل الحياة وهو ما سيؤكده القرآن بعد قرون " خلقنا من الماء كل شيء حي ".
الماء هو الأم والرحم عند العبريين.
الماء هو منبع الحياة وكذلك مصدر الموت عند الشعوب الأولى.
الماء عند الإغريق يرمز للحياة الموت والمرآة
الماء مركز لتوليد ما هو جسدي وروحي عند جميع شعوب القارات.
الماء عند المسلمين هو التطهير ( الوضوء خمس مرات في اليوم)
الماء يمارس سلطة "سوتيريولوجيك " ( معجم الرموز )
إذا كان الماء يرمز للخصوبة والتجدد والحياة والجنس والمرآة فإنه مقابل ذلك يرمز للموت والعنف والكوارث الطبيعية والخسائر المادية والروحية..
حين نستعرض بعضا من رموز الماء ندرك تلقائيا من أن مهمة الناقد لن تكون بالسهلة، ما بالكم من قارئ من مستوياي المتواضع.
لذا يطيب لي أن أذكر مرة أخرى القراء من أن قراءتي لن تكون قراءة تحليلية ولا بدراسة نقدية. هي قراءة عاشقة متفاعلة، أسعى أن أجعلها فاعلة، مساهمة في تقريب المتن من القراء الكرام.
يقول الزجال محمد الراشق :
لكلامْ فهامة
والغوص فمدادو زعامة
هذه الحكمة هي من حرضتني، بل من شجعتني على الغوص في المداد على قدر لاستطاع ما دامت الكتابة "زعامة" على حد قول الزجال ، أي تدفع للمغامرة.
سأتناول جانبا واحدا فقط في القصيدة، وإذا تطلب مني الأمر العودة للقصيدة سأقدم قراءة ثانية وثالثة ولما لا ؟ ، ما دامت توفر لنا مادة ثرية للكتابة.
الماء ، قلت غني بالرموز، وهو الأكثر إغراء للخيال الإبداعي لما يحمله من دلالات لا حصر لها حسب باشلار .
في فكر دوكون و بامبارا : الماء هو إلهي وكذلك هو ضوء، هو كلام، هو كلمة الله الخالقة.
باشلار تكلم بإسهاب في أحد كتبه عن الماء، وهكذا قسم الماء إلى: المياه الصافية، المياه الربيعية، المياه الجارية، المياه الراكدة أو النائمة، المياه العاشقة، المياه العميقة، المياه العنيفة والمياه التي هي مصدر اللغة أو المعلمة لها.
بالفعل الماء مصدر اللغة ومعلم لها.
وهو ما يؤكده لنا الزجال محمد الراشق في هذا النص المفتوح داخل زخم انفعالي من الأحاسيس. يقول:
رشّْ الما أمان
ولكلامْ لوبانْ
والحضرة تجيبْ الحالْ.
حنـّشْ فلواحْ الما
ترتاحْ الكلمة
تلوحْ خبالْ.
أو حين يقول :
كليمة لله
الما عطشانْ ......
شريبة لله
الحرف السانو اخرجْ ........
في هذين المقطعين يتساوى الماء بالكلام والكلام بالماء حتى لا نكاد نفرق بينهما. وهذي مفارقة عجيبة لابد من الوقوف عندها، حيث كلمة : كلام ، كتابه حَنَّش ، الحرف، اللسان، تكررت 6 مرات، مقابل 6 التي جاء بها الماء والكلمات الدالة عليه (+ رش ، شريبه ، عطشان).
هنا يتأكد لنا ما ذهب إليه باشلار حين قال بأن الماء مصدر اللغة وهو ما احترمه الزجال والباحث سي محمد الراشق في متنه الزجلي.
حيث الماء يولد لغة الزجل، أو بعبارة أخرى المداد يولد زجل اللغة.
لكلامْ فهامة
والغوص فمدادو زعامة
لتصبح القصيدة عبارة عن نهر طويل يتدفق كلمات تحمل أجراسا تعطي نبرات داخلية وخارجية في جريانها...
أقول يتدفق كذلك صورا حسية وذهنية واستعارية تجعل القارئ يركد خلفها دون ملل أوكلل.
في القصيدة: الماء هو مركز السلم والضوء، كما هو عند الشعوب القديمة منها العبريين.
الماء في الأساطير له ارتباط بالبرق والرعد، من ثم اعتقد القدماء من أن أصل الماء قد يكون هو النار. شعب الآزبيك كانت له تقريبا نفس الاعتقادات.
يحلو لي أن أستشهد مرة أخرى بفكر دوكون و بامبارا من حيث الماء هو إلهي وكذلك هو ضوء...
كلمة ضوء هي ما يهمني هنا. (والتكنولوجيا ألم تستخرج النار أو الضوء من الماء مند قرن ونيف).
الماء .. الضوء ، عنصران يفرضان علي وقفة ولو قصيرة لما للماء من علاقة حميمة مع النار أو بالضوء، لأترك المجال لأصدقائي القراء الأخرين استكشاف الجوانب الأخرى التي تقدمها القصيدة وهي جوانب عديدة تثري المتن.
فشّشْ
وجهْ الما
حتى تبان اللمعة
فعيون نعسانة.
هذا وجه الما
اللي ذابْ من نور اللهْ
ف محراب الشـّعا اللي تيخطفْ
سرعة الضو تتلقـّفْ قدّام وجه الما
اللي تيحلبْ نجومْ السّما
الما ضو والضّو ما
الضو الما
الما الضو
ويلا فات الشـّعا
يجي اللي بعدو.
لكلام يشبه الما
في هذه الأبيات وحدها ، يتكرر الماء 8 مرات ( الأفعال الداله على الماء : 2 : ذاب، تيحلب )
أما الضوء ، الشعا ، اللمعه ، النور النجوم فجاءت : 10 مرات.
الماء في هذه الأبيات يرمز كذلك لثنائية الأعلى والأسفل ( السماء _ الأرض ) في المتن صورا كثير تدل على ذلك وبما أن قراءة أخذت هنا مجرى آخر سأترك هذا الموضوع لفرصة أخرى.
الزجال سي محمد منحنا متعة رائعة للإبحار في لذة المتن، هو الغوّاص الماهر.
غوصُه العميق جعله يوحد الماء والضوء في صور زجلية باذخة تسمو بالقارئ لعوالم حالمة.
أقول للزجال سي محمد الراشق بلسان قصيدته :
شكون بحالك مع الما تتوحّدْ....
ادريس أمغار مسناوي
تيفلت 01 / 09 / 2010 م